نحن والسلف.. الاعتراف بالفضل لا يعني أن نقف حيث وقفوا ! #الكلباني #مصر


 

في المقال السابق عرضنا لمحطات يجب الوقوف عندها في التعامل مع الآثار والأخبار المروية عن السلف الصالح.

وبعد تلك الوقفات يفرض سؤالٌ نفسَه , أين نحن من مذهب السلف ؟ وأين مكانهم في حياتنا الفكرية والأخلاقية ؟ ما هي المجالات التي يجب فيها اتباع منهجهم ؟ وما هي فائدة قولنا بعد ما قررتَ ( كتاب وسنة على منهج السلف ) ؟

وسبق في أضعاف المقال شيء من الجواب عن هذا السؤال , ونعرض هنا إلى شيء من التفصيل ، يزول به الإشكال .

مما يجب أن يعلم ، أن هناك جوانب لا يسعنا إلا أن نسير على خطى السلف الواثقة ، ونقفو آثارهم المباركة , وهذه الجوانب إنما هي في القضايا الثابتة التي لا تخضع لظروف أو مرحلة ما , أو قل هي في القضايا التي تراد لذاتها من حيث هي صالحة لكل زمان ومكان , وأهم هذه الجوانب هو الجانب العقدي .

فالعقيدة شيء ثابت ، لا تغيرها الأيام ؛ لأنها تتعلق في أغلب جوانبها بالخالق العظيم وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر .

فما يتعلق بالله ، وما يجب له من الكمال المطلق وبقية أركان الإيمان , لا يجوز فيه غير التسليم المطلق على نفس الطريقة والتصور الذي كان عليه السلف الصالح , قال الحق تبارك وتعالى (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا), فهذا شيء قطعي لا يقبل جدلا.

وكذلك في جانب العبادات . فالعبادة شرعها الله لذاتها , وليست خاضعة لظروف ما , فهي لا تتغير أبدا ، وقد لا تدرك حكمة التشريع في كثير منها , والواجب التسليم الكامل فيها ، والاتباع المحض ، ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ( خذوا عني مناسككم ) .

فالعبادة في ذاتها لا يحل فيها تغيير ، ولا تبديل ، ولا سلوك طريقة لم يعرفها السلف الأوائل فيها , ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .

وكذلك في أصول الأخلاق التي تتفق مع العقل والفطرة السليمين ، واتفقت عليها شرائع الأنبياء والمرسلين , كالصدق ، والعفاف ، والعدل ، والكرم ، وصلة الأرحام ، ونجدة الضعيف ، والتواضع ، وغيرها من الأخلاق التي نتتلمذ فيها على السلف الصالح الذين بلغوا فيها شأواً لا يصل إليه من جاء بعدهم .

وإنما قلنا ( أصول الأخلاق ) ؛ لأن هنالك أخلاقا تخضع للأعراف والعوائد فتتغير بتغير الزمان والمكان ، كما هو مشهور في كتب الفقه .

وهكذا المنهج العام في تعامل السلف مع الأحداث والمستجدات , وربطها بالنصوص الشرعية التي تعالج كل قضية , والاجتهاد لقضايا العصر , وتطلب الحلول المناسبة لزمانهم ، وعدم جمودهم على نفس الطريقة التي كان يسير عليها سلفهم ، مع ما يكنونه لهم من المحبة والتعظيم ، والاعتراف بالأسبقية في العلم والفضل .

ومن هذه الجوانب : الاستقلالية في الفكر ، وتفعيل دور العقل ، وعدم التقليد الأعمى لمن سلف ، والتعامل مع السابقين كبشر يخطئون ويصيبون , قال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر.!

فقد كانت طريقة السلف تنقية أقوال من سبقهم ، ووضعها تحت مجهر العلم , فمن رام الأخذ بكل صغيرة وكبيرة أثرت عن السلف الصالح فليس هو على طريقتهم ، ولا على هديهم .

ونسلك سبيلهم في سعة الأفق ، وتقبل الآخرين ، وعدم أطر الناس على آرائهم ، والاعتراف بالقصور ، وعدم تنزيل المسائل الفرعية الخلافية منزلة اليقينيات والقطعيات التي لا تقبل جدلا.

فالمسائل التي أجمعوا عليها لا يقبل الحيد عنها قيد أنملة , وفي المسائل التي اختلفوا فيها لا نُغفل اختلافهم ، بل يجب أن نتعلم منه كيف نختلف , وأدب الخلاف وفقهه .

ولا بد أن ندور في دائرتهم فلا نتجاوزها , ولا نتعدى خلافهم في أي قضية ما لم تخضع لظروف تغيرت في زماننا , فإذا اختلفوا على قولين مثلا فلا يحل أن نحدث قولا ثالثا ؛ لأن هذا خروج عن إجماعهم جميعا , وهذا هو الذي عناه الإمام أحمد ابن حنبل في مقولته الشهير : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .

ولا تعني بالطبع أن نسد باب الإبداع والابتكار والاجتهاد في القضايا المستجدة , ولا في القضايا التي طرقها السلف ولم يجمعوا فيها .

كما لا تعني غلق باب التفكير والحلول الجديدة في القضايا التي هي وسائل وأدوات لتحقيق المصالح والأهداف , وهذا هو الذي يسميه علماء الأصول بالمصالح المرسلة ، التي عملت بها كل المذاهب الإسلامية ، وهي المصلحة التي تحقق غرضا شرعيا دينيا أو معيشيا ، ولكن الشرع لم ينصَّ عليها ، لا بإلغائها ، ولا باعتبارها , بمعنى أنه سكت عنها.

فهي مقبولة لأن مصالح الناس واحتياجاتهم لا تنحصر ، وتختلف باختلاف كل زمان ومكان ، وليس من العقل ولا من الدين أن يعامل أهل كل مكان وزمان معاملة واحدة مع اختلاف الظروف والبيئات.

وهذا هو الذي فعله السلف الصالح في خير قرن ، فلم يجمد الصحابة على الحال التي تركهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما طوروا ، وأبدعوا ، وجاروا بقية الأمم ، واستوردوا النافع من حضارات الشرق والغرب ، فمصروا الأمصار وجمعوا القرآن ، وسنوا القوانين التي تنظم حياة الناس ، ودونوا الدواوين .

فقد سار عمر بالأمة بعد أبي بكر – رضي الله عنهما - بطريقة أخرى ، وأظهر من السياسات ما لم يكن يعرفه أبو بكر , ومع ذلك ظل عمر سلفيا ، بل في رأس هرم السلف ؛ لأن الظروف بعد أبي بكر تغيرت ، ولو كان أبو بكر حيا لفعل كما فعل خليفته , وهكذا ، مازال السلف جيلا بعد جيل يتعاملون مع زمانهم وعصورهم ، ويفكرون بعقولهم لا بعقول أسلافهم .

ولكي نكون سلفيين حقا يجب أن نسلك هذا السبيل ، ونفكر لزماننا كما فكروا لزمانهم ، ونبدع كما أبدعوا , وفرق كبير بين الإبداع والابتداع .

ويجب أن نسير على خطاهم ، في استخدام كل ما يحقق الرخاء والعيش الكريم ، ونتعامل مع كل عصري يخدم أهدافنا السامية ، ويبلغ دعوتنا ورسالتنا في صورتها المشرقة .

إننا نسمع أصواتا من هنا وهناك تنادي بالعض على كل ما جاء عن السلف ، غير واعية لما تقول ، ولا مدركة للعواقب والآثار السيئة من هذه الدعوة – بحرفيتها - ويحتج هؤلاء بفضل علم السلف على الخلف , ولا أحد ينكر فضل علم الأولين على الآخرين ، ولكن لا يعني الاعتراف بالفضل أن نقف حيث وقفوا كما سبق شرحه .

وإنما نال علم السلف هذه الأفضلية بالأسبقية إلى العلم ، وتبليغه ، فكل من جاء بعدهم عيال عليهم , ولما في علومهم من الواقعية وعدم الانجرار وراء الأوهام والخيال الزائف , ولما تميز به علمهم من السهولة واليسر الخالي من تعقيدات الفقهاء ، ووساوس وجعجعة المتكلمين .

هذا هو الطريق الذي رسمه لنا السلف الصالح الذين نتغنى باتباعهم وهذه هي آثارهم وعقولهم وبهذه السبيل استحقوا أن يكون محل التعظيم والاحترام من كل من عرف شيئا من تاريخهم.

نحن والسلف.. الاعتراف بالفضل لا يعني أن نقف حيث وقفوا ! #الكلباني #مصر Reviewed by RIFT on September 01, 2022 Rating: 5

No comments:

نموذج الاتصال

Name

Email *

Message *

Powered by Blogger.
//]]>