أيـَّامُ كارلوسِ في الخُرْطُوم مشهد 8
مشهد 8
في مطار الخرطوم، وقف ”عبدالله بركات“ أمام ضابط الجوازات السوداني منتظراً قدوم لحظة حرجة في رحلة مليئة بالتوتر. أخرج بركات من سُترته الجواز الذي استلمه من الرفاق ليتأكد من صحة موقفه. ألقى نظرة أخيرة على الجواز، الصورة وتحتها اسم صاحب الجواز اليمنى “سالم حميد” قبل تسليمه، وما أن استلم الضابط الجواز حتى هتف قائلا: «مرحبا يا أبو… يمن»، ثم أطال النظر في وجه عبدالله بركات الذي ارتبك تماماً ولم يدرِ كيف يرد التحية. لو أنه تحدَّث لتبيَّن من لهجته أنه ليس يميناً وقد يتشكك الضابط في أمره. وضع كارلوس ابتسامة عريضة على وجهه، وهزَّ رأسه، فمرَّ الموقف بسلام. بدأ الضابط ينظر للصورة التي بالجواز وإلى وجه كارلوس، واستمرَّت هذه العملية لدقائق، بعدها نهض حاملاً الجواز بين يديه مغادراً المكتب. هنا تصاعَدَ توتر بركات، وبدأ يستعد للأسوأ. جال ببصره في أنحاء الصالة لتحديد جغرافية المكان بشكل أدق. تحسَّس مسدساً كان قد أخفاه في موضع بجسده لا يمكن للشيطان معرفته. تأكد من جوازه الآخر بجيب سترته. رَفَعَ رأسه إلى الصالة بحثاً عن شيء ما فوجد ساعة كبيرة تشير إلى اليوم 13 أغسطس الساعة الرابعة عصراً العام 1993.
أنهى ضابط الجوازات لحظات بركات العصيبة، وهو يقذف له بالجواز متمنياً له إقامة سعيدة بالخرطوم.
مشهد (9)
في الطريق إلى مقر إقامته الأولى بالهيلتون غرب الخرطوم، انتابته هواجس شتى. نظر في مرآة العربة… ليس هناك ما يزعج. لم يجد تفسيراً لتحرُّكات الضابط التي أثارت مخاوفه. الرفاق أعلموه أن السودان هو القطر العربي الوحيد الذي يسمح للعرب بالدخول دون تأشيرة، الشيء الذي اعتبره بركات دليلاً إضافياً على ثورية النظام وتوجُّهه العروبي الوحدوي. كانت المخابرات الأردنية قد بدَّدت مخاوف بركات حين أطلعته على الإعلان الرسمي الذي أذاعته الحكومة السودانية في العام 1993، والذي تقرَّر بموجبه فتح حدود السودان أمام العرب دون تأشيرة. عرف بركات من بعد أن القرار أثار جدلاً وسط السودانيين وفتح البلاد لجماعات إرهابيَّة عبثت بأمن البلاد. لماذا توقف الضابط عند جواز يمني يحمله بركات الآن؟! لم يجد تفسيراً منطقياً للحادثة، ولكنه تجاوزها، فالألغاز في حياة بركات لا تُحصى.
مشهد (10)
أمام موظف الاستقبال بالهيلتون، أطلق بركات مفاجأة أخرى، إذ بدأ يتحدَّث مع موظف الاستقبال وبصوتٍ عالٍ مستخدماً لهجة لبنانية يُتقنها جيداً، مقدِّماً نفسه على أنه مستثمراً لبنانياً لم يجد معاملة كريمة من موظفي الفندق. أخيراً تمَّ الاعتذار له، وسلم لإدارة الفندق جواز سفره اللبناني. ومن يومها صار نزيل الغرفة رقم 312 هو المستثمر اللبناني ”بديع ياسين الحاج“!!
مشهد (11)
من نافذة غرفته المطلة على ملتقى النيلين مباشرة، بدأ بركات يرى مشهد غرائبي. جسد نهرٍ يتمدَّد على أرض منبسطة، تحيط به الخضرة، ليعانق آخر أشدَّ عنفواناً منه. أخذ يتأمَّل هذا المشهد على الرغم من الإنهاك الذي يحس به جرَّاء السفر والتوتر. حكى بركات كيف أنه ظلَّ لأيامٍ لا يشغل نفسه بشيء، بقدر ما شغلها بتأمُّل هذا المشهد في مُقرن النيلين. لقد عرف خلال حقبة صباه في موطنه الأصلي فنزويلا كل أنواع الخُضرة والجمال، وبعدها طاف الدنيا شرقاً وغرباً، إلاَّ أن مشهد التقاء النهرين ألهب خياله. كان يجلس على كرسيِّه أمام النافذة لساعاتٍ مطلقاً العنان لخياله، مستعرضاً قصة حياته، متأمِّلاً محطاتها الكثيرة الخطرة التي عبرها. قد لا يُتاحُ له وقت آخر للتأمُّل كما هو متاح الآن.
مشهد (12)
عانت الإنقاذ من حصار دولي مُحكم تتزعَّمه أمريكا والاتحاد الأوروبي، وهو الحصار الذي بدأ مع أول يوم للانقلاب، وتصاعدت وتائره بعد حملات منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الطوعية الأخرى، التي تنوَّعت اتهاماتها للحكومة السودانية ابتداءً من وأد الديمقراطية حتى تجارة الرقيق. أضف لذلك المخاوف التي أثارتها الإنقاذ لدى الدول العربية والغربية على السواء بتأسيسها ما عُرف باسم ”المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي“ الذي جمع في عضويته أعداء الغرب ومعارضي الأنظمة العربية. مما قاد لتصنيف المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي كتجمُّعٍ لإرهابيي العرب. أوقفت دول الاتحاد الأوروبي عونها وتعاوُنها مع السودان بسبب الانقلاب من جهة، والتحرُّكات المريبة للنظام على جبهات عدة من جهة أخرى. حوصر النظام بالكامل، فبدأ يبحث له عن مخارج. كانت فرنسا هي الأكثر قابلية للتعامُل، فموقفها لم يكن متشدِّداً مثل بقية دول الاتحاد الأوروبي. أرجع المحبوب عبدالسلام موقف فرنسا إلى علاقة الدبلوماسيين الذين تولوا ملف السودان بالثقافة العربية، واصفاً مواقفهم بـ”المتعاطفة“ مع العرب، إضافة لعلاقة خاصة للترابي بالفرنسيين بحُكم دراسته بفرنسا، وإجادته للغتهم. اتضح لاحقاً أن فرنسا كانت تعاني من عقابيل توترات سياسية داخلية وإخفاق أمني لأجهزة المخابرات الفرنسية بعد أن استطاع كارلوس ارتكاب جرائمه في وسط باريس وتمكن من الفرار عبر الحدود الفرنسية إلى ألمانيا. كانت أجهزة المخابرات الفرنسية تبحث عن كارلوس في أقاصي الأرض وبأي ثمن.
مشهد (13)
بدأ المستثمر اللبناني ”بديع ياسين الحاج“ – أو ”عبدالله بركات“ – حركته في المدينة مقدِّماً نفسه على أنه رجل أعمال لبناني يستثمر في مجال الزراعة والتجارة. في الإطار، التقى برجال أعمال سودانيين في بهو الفندق، حيث يقضي جُلَّ وقته مع ضيوفه الذين يحدِّثونه عن كل شيء في السودان، ابتداءً من السياسة وليالي الخرطوم وأزقتها. من تلك الجلسات، عَرِفَ كثيرين من نجوم المجتمع السوداني، ومن هناك رسم خطة تحرُّكه جيداً. تكاثرت دعوات رجال الأعمال المُزيَّفين لرجل الأعمال الأكثر تزييفاً في مناحي العاصمة الخرطوم وأنديتها. لم يكن بديع يأبه لمُتع الخرطوم البائسة، فلقد عرف في حياته متعاً لا يمكن مقارنتها بحفلات ودعوات ماجنة بالخرطوم. من عرف ليالي باريس وعاش بشارع الحمراء ببيروت وتسكع بمقاهي فيينا لا يمكن أن تستهويه ليالي الخرطوم، احمرَّت أو اصفرَّت. كان هدف بديع من تحرُّكاته الكثيفة وعلاقاته اختراق المجتمع السوداني بتأسيس علاقات وطيدة للوصول لمبتغاه، فمضى لبناء شبكة علاقات واسعة عبر طبقات متنوِّعة في مجتمع الخرطوم. بدأ رمي الشباك منتظراً صيداً ثمنياً وضعه نُصب أعينه منذ ما قبل قدومه إلى الخرطوم.
مشهد (14)
برقية عاجلة استلمها جهاز الأمن السوداني من مندوبه بباريس، محي الدين الخطيب، تحمل في طيَّاتها دعوة عاجلة لوفد من الأمن لزيارة باريس على وجه السرعة للالتقاء بنُظرائهم هنالك لبحث القضايا المشتركة. استلم الجهاز الدعوة وحاول فك غموضها، فليس هنالك قضايا عاجلة ومشتركة تتطلب زيارة أصلاً، وإن كانت هنالك قضايا، فهي ليست مُلحَّة. ولما كانت إستراتيجية الإنقاذ تهدف لفك الحصار العالمي المُحكَم حول رقبتها، لم يستغرق نقاش تلك التفاصيل وقتاً، إذ سُرعان ما وافق الأمن السوداني على تلك الدعوة وبدأ التحضير لها بشكل جدِّي.
مشهد (15)
لم يعُد الهيلتون مكاناً مناسباً لبديع (”عبدالله بركات“). الفندق ليس مكاناً آمناً دائماً، وخاصة بعد أن عرف بديع أنَّ رجل الدين الشيعي محمد مهدي الحكيم قد تمَّت تصفيته في استقبال فندق الهيلتون في ثمانينات القرن الماضي. لغرائب الصدف أن يبحث كارلوس عن مقر أو شقة ولا يجدها إلاَّ بحي العمارات في ذات الشارع – شارع 35 – حيث مقر السفارة الفرنسية، بل على بعد 90 متراً من مقرها!! هل كانت صدفة أم أن بديع خطط جيداً لتلك المنطقة التي زارها أكثر من مرة؟! السمسار الذي أتمَّ الإيجار يؤكد أنها محض صدفة، فلا أحد كان يعلم من هو بديع اللبناني أصلاً… والشيء المُحيِّر الذي أدهش السمسار أن عقد الإيجار تم توقيعه باسم عبدالله بركات، ولم يُكتب باسم بديع!!
مشهد (16)
قالت له بلغة إنجليزية فصيحة إن اللبنانيين عادة لا يهتمون بشراء التحف الأثرية من السودان… كانت نظرتها إليه تشي بأن وراء هذه الأربعينية الجميلة سرٌ عظيم، أدركه عبدالله بركات للوهلة الأولى بخبرته الطويلة في التعامُل مع البشر. أدرك بديع (”عبدالله بركات“ – ”كارلوس“) أنه أمام امرأة ذكية جمالها لا يقاوم. لأوَّل مرَّة منذ وصوله للخرطوم يحس بأن أحداً ما يُشكِّكُ في جنسيته اللبنانية. الغموض الذي أحسَّ به في ثنايا كلماتها جعله أكثر حذراً في الحديث إليها، ولكنه عجز عن كبح جماح نفسه عن مواصلة الأسئلة المتناثرة التي لا تفضي إلى شيء بقدر ما تفتح أبواب الكلام.
انتبهت ليلى لبعض الزبائن الذين كانوا في انتظار إنهاء حديثها مع الضيف الغريب ليسألوا أو ليشتروا شيئاً، فاستأذنته لتنشغل بعملها. جلس بديع على كرسي وبدأ يتأمَّل جمال تلك السودانية التي لم يعرف مثلها منذ أن وصل الخرطوم، على الرغم من أنه طاف بشوارعها وأنديتها، وعرف حفلاتها، ولكن هذه المرأة تتمتع بجمال وذكاء جاذبيْن. جال ببصره في المكان ليرى عشرات التحف الجميلة مرصوصة على الأرفف بشكل متناسق يدلُّ على ذائقة رفيعة. ما أقلقه وجعله ينهض واقفاً، صورةٌ لضابط بالجيش السوداني معلَّقة بعناية في مكان بارز على يمين مقعدها الرئيس. خرج بديع من المكان مسرعاً وسط دهشة ليلى التي توقعت أن يكمل حديثه معها.
أيـَّامُ كارلوسِ في الخُرْطُوم مشهد 8
Reviewed by RIFT
on
April 21, 2022
Rating:
No comments: