ايام كارلوس في الخرطوم.. مشهد (99)


مشهد(99)
أبريل 20, 20220    

حكى أبومدين لكارلوس قصصاً شتى عن أحوال المناضلين العرب، وعن معاناتهم مع الأنظمة العربية. ثم شكا له من بعض شيوخ وأمراء الخليج الذين لم يعُد استرداد بيت المَقدِس من أولوياتهم. تجنَّب كلٌ من أبومدين وكارلوس التطرُّق لأي مسائل ماليَّة. تذكَّر كارلوس زمناً قريباً كان فيه هو المموِّل الأول للمنظمات الفلسطينية. كان كارلوس يموِّل المنظمات بمئات الملايين من الدولارات والتي يحصُل عليها عادة من عمليات القتل والخطف والابتزاز الذي يمارسه على الشيوخ والأمراء والرؤساء. وكان كارلوس يعتبر ذلك عملاً مشروعاً طالما أنه يخدم قضية مقدَّسة. ها هو يصل حدَّ الإفلاس، ولا معين… بل هو الآن غير قادر على مصارحة أبومدين بأوضاعه المنهارة…

نهض أبومدين مودعاً كارلوس قائلاً:«وقتنا جاء يا سالم، والوفد بانتظار دعوة مع الشيخ الترابي…سأحدثه يدير باله عليك»…

خرج أبومدين ووقف أمام الباب، وكارلوس مُتنازعٌ بين كبريائه وفلسه… أخرج أبومدين كارلوس من حالته تلك حين أمر الحُرَّاس بإنزال ثلاث شنط سامسونايت من عربته، مشيراً للضابط بفتح شنطة العربة… أُخذت الشُنط على عجل لداخل البيت… وغادر أبومدين مودعاً كارلوس دون أن يتفوَّه بكلمة، وسط دهشة كارلوس وحُرَّاسه.

مشهد(100)

بدأ د. نافع يعرض على بارت النتائج التي توصَّلوا إليها، شارحاً كيفية دخول عبدالله بركات للسودان واختفائه، موضحاً أن جهودهم ستتواصل للعثور على عبدالله بركات الذي غيَّر اسمه ودخل السودان بجواز آخر مزوَّر في الغالب. الخطة التي اتفق عليها الوفد الأمني هي مواصلة الإنكار لحصد المعلومات التي بحوزة الفرنسيين.

استمع فيليب بارت لحديث نافع بإصغاءٍ شديد، وما أن انتهى، حتى سَحَبَ بارت الفايل الآخر الذي كان أمامه قائلاً:«لديَّ معلومات أخرى مفيدة»…

كانت المعلومات الأخرى عبارة عن ألبوم صور… بدأ بارت يسلِّم نافع صورة وراء الأخرى… الصورة الأولى: لقطة لكارلوس وهو على بوَّابة سودانير بمطار الخرطوم، ثم صورة أخرى له في الصالة، وثالثة، وهي المفاجأة الكبرى لـ”د. نافع“ إذ يظهر فيها كارلوس مرتدياً الجلاَّبية السودانية ويقف فيها أمام بوَّابة منزله (صورة الطهور!!)،ثم صورة رابعة له حين كان يهم بركوب عربته الكريسيدا أمام المنزل، وإلى جانبه شاب سوداني يلبس جلاَّبية (مرفقة بالمقال!!)، وصورة أخيرة له بنادي الخرطوم ومعه فتاة وطفل، ومكتوب على الصورة الملتقطة أمام المنزل : «منزل رقم (…) شارع 33 بالعمارات »!!

ذُهل د. نافع من تدفُّق الصُور بين يديه كدلائل قاطعة على وجود كارلوس بالخرطوم ومقرَّه ورقم عربته التي يقودها… قال نافع : «الآن أمامنا دلائل تجعلنا نواصل التحقيق بدقة، وبلاشك إننا راغبون في إنهاء هذا الأمر بما يفيد ويخدم علاقات البلدين». قصد نافع إيصال رسالة موجزة لبارت… رحَّب بارت بكلمات د. نافع منهياً اللقاء بإشارة لكواليني، راجياً منها أن تطلب من الوفد الفرنسي الذي كان منتظراً بالقاعة الخارجية، مواصلة الحوار مع د. نافع ووفده في باقي الملفات.

مشهد(101)

فاض النادي السوري بالمدعوِّين. كان احتفاء الجالية الأثيوبية في ذلك العام مشهوداً. كانت المغنية الأثيوبية الشهيرة ”إستير“ قد وصلت الخرطوم بطائرة خاصة ومعها كامل طاقمها الفني، وبصحبتها مسرح مجهَّز تماماً. كان ليلة إثيوبية لم تشهد الخرطوم لها مثيلاً. حين وصل كارلوس لمنتصف دائرة النادي، وبرفقته هناء التي ينسدل شعرها لأسفل خصرها الدقيق، في ذلك الوقت كانت بلين في قمة نشوتها تمارس رقصاً مدهشاً لم يَرَ كارلوس مثله، لا في بلاد العرب ولا العجم… كانت بلين ”تتقصَّع“ لتنهض بصدرها كما الموج إلى أعلى، ثم تهبط تدريجياً مع إيقاعات إستير الشجيَّة، لتعود فاردة قوامها الجميل معطرة الأجواء بترديد الغناء خلف إستير، ثم تصعد المسرح لتشكل ثنائياً مع إستير لتهوي بالحاضرين إلى قاعٍ سحيق من التأوُّهات.

مارست بلين رقصها ذاك، مستعرضة جسدها الغض وإمكاناتها الفنية كأنها لاعبة باليه أثيوبية ماهرة… ضجَّت الساحة بغناء إستير وصوتها البديع، ولكن كل الأنظار كانت هناك حيث تنثر بلين إبداعاتها الفنية… خلت الساحة من الراقصين الذين تحوَّلوا برضاهم إلى ”فرَّاجة“، إذ لا قِبل لهم بمنافسة تلك الساحرة في ساحة واحدة… نظرت بلين إلى الساحة، فأبصرت كارلوس يلجها وهو في كامل أناقته… كانت بلين وقتذاك تضرب بقدمها اليمنى الأرض مع إيقاع ساخن لأغنية شجيَّة… بدأت بلين تزحف للخلف رويداً رويدا، حتى أمسكت بيدي كارلوس وطفقت تجرَّه للحلبة…لم يتمالك كارلوس نفسه حين جذبها بيديه لصدره مستخدماً خبرته كأحد أشهر الراقصين بمقاهي كاراكاس أيام الشباب… أفرد كارلوس يديه مُبعداً بلين قليلاً ليمارس فاصلاً من الرقص وحده أذهل الحاضرين، ثم عائداً بسرعة ليُمسك بكلتا يدي هناء، قاذفاً بها إلى منتصف الساحة، وماداً يده الأخرى لبلين، ليبدأ ثلاثتهم رقصاً مجنوناً ما عرفته الخرطوم قط… ثلاث قارات تنثر شذى رقصها البديع… قدَّمت هناء فاصلاً من الرقص العربي السوري على إيقاع أثيوبي خالص، كما أبدع كارلوس في مقارعة بلين في رقص أثيوبي طالما أجاده أيام اليمن الجنوبي، حين كان علي ناصر وسالم البيض رفقاءً لمنقستو هيلا مريام… في تلك الأيام كانت مقاهي اليمن الجنوبي مسرحاً لإبداعات الإثيوبيين… أما بلين، فلم يدرك أحد كنهاً لرقصها، كان نسيجاً وحده… شدو إستير مسَّ شغاف قلوب الجالية الأثيوبية، فبكت في تلك الليلة بكاءً مراً… وصل الإنهاك ببلين وكارلوس وهناء حداً لا يمكنهم معه مواصلة إبداعهم… فدخل الساحة هُواة سُرعان ما انصرف المدعوون عنهم… حيَّت بلين هناء، وشكرتها بلطف على تشريفها الحفل، كما نظرت لعيني كارلوس ملياً… لم تصدِّق أنه قبل دعوتها بتلك السُرعة لحضور احتفالية الجالية. أحسَّت بلين أن الأحوال النفسية والمادية لكارلوس تحسَّنت… وكانت بلين أصلاً قد جهَّزت مبلغاً من المال لتقديمه لكارلوس، ولكنها الآن تراجعت عن ذلك، منعاً لإحراجه. انتهت تلك الليلة ولا زالت ذكراها وأشرطتها تُباع في أسواق الخرطوم كحدثٍ فريدٍ ضجَّ برقص وغناء لن يتكرَّرا في فضاء الخرطوم مرة أخرى.

مشهد(102)

في قاعة بالسفارة السودانية بلندن، جلس الوفد الأمني برئاسة د. نافع لتقييم الوضع؛ بعد الأدلة التي أفرج عنها الفرنسيون. جمع الوفد، بجانب د. نافع وحسب الله وصلاح سعد، كلاً من الدبلوماسي عطا المنان بخيت ومحيي الدين الخطيب.

بدأ حسب الله مدير الإدارة الغربية بالجهاز؛ مُثنياً على الطريقة التي أدار بها د. نافع الحوار مع فيليب بارت، مشيراً إلى أن الباب الآن قد فُتح للتعاطي الإيجابي مع الفرنسيين في قضية كارلوس، وخاصة بعد الاستعداد الذي أبداه الفرنسيون للعب دور إيجابي في عودة العلاقات الأوروبية السودانية، وإعادة تسويق السودان في العالم.

أشار صلاح أنهم بحاجة لكسب مزيد من الوقت في مفاوضاتهم مع الفرنسيين لأجل الحصول على مكاسب فعلية وليس وعوداً. ولذا رأى أن ما طرحه د. نافع بمواصلة التحقيق هو اتجاهٌ صحيح يتيح فرصة للمناورة لأقصى مدى ممكن..
«فالرجل الذي عرض في الصورة لا يزال لدينا هو ”بديع“ اللبناني، أعني أننا بحاجة لكسب زمن إضافي تعمل الدبلوماسية والأمن خلاله لتحقيق مكاسب سياسية».

قال الخطيب إن هنالك قضية مهمة جداً، لابد من لفت نظر الفرنسيين إليها، وهي إبقاء الأميركيين بعيدين عن الملف، خاصة بعد تصريحات مادلين اُلبرايت حول موضوع الإرهاربيين في السودان، إذ بإمكانهم استغلال الملف لتصفية حسابات مع الحكومة. اقترح أن يتحدَّث د. نافع مع بارت قبل مغادرة الوفد حول هذه النقطة. وأشار عطا لضرورة الإسراع في حسم الملف لأن الحملة الإعلامية ستتصاعد وتيرتها، وسيتم استغلال هذا الملف لتحقيق مكاسب سياسية في انتخابات الصيف القادم.

أنهى نافع الاجتماع بعد تدوين الملاحظات، مكلفاً حسب الله بالمتابعة الخارجية، وصلاح لمتابعة أمر كارلوس داخلياً، والاقتراب منه أكثر بهدف وضعه تحت دائرة المراقبة اللصيقة بعد أن صار أمره جاداً وماساً بالأمن القومي.
يتبع

ايام كارلوس في الخرطوم.. مشهد (99) Reviewed by RIFT on April 21, 2022 Rating: 5

No comments:

نموذج الاتصال

Name

Email *

Message *

Powered by Blogger.
//]]>