ايام كارلوس في الخرطوم مشهد (47)
منتصف النهار، توقفت عربة صلاح سعد أمام منزل كارلوس ليسلم حارس البوابة كرتاً مكتوب عليه: «أرجو أن نلتقي بكافتيريا ”مرمرة“ هذا المساء الساعة التاسعة لإلقاء نظرة على ”نهاية الأرض“… صِدِّيق».
غادر صلاح المكان بعد أن تأكد من استلام كارلوس الكرت… نظر كارلوس للكرت فأدرك أنه ظفر بالصيد الذي كان ينتظره. أعاد النظر للكرت مرة أخرى… ليست به أية معلومات سوى ما هو مكتوب. لم يشُك أصلاً في أن الترابي هو من يحاول الاتصال به لأن لا أحد في الخرطوم يعرف قصة ”نهاية الأرض“ سوى الترابي وليلى… ليلى قالت إن الترابي استلم الكتاب ونقلت عنه أنه سيتصل به، وها هو يفعل. ولكن من هو ”صدِّيق“؟! ولماذا صِدِّيق وليس الترابي شخصيا؟! احتمال أن يكون الترابي هو صِدِّيق، بالطبع لا يمكن استخدام اسم الترابي في مثل تلك اللقاءات، فقد يكون صِدِّيق هو اسم كودي للترابي. ما أثار دهشته هو المكان الذي تمَّ اختياره للقاء!! لماذا يختار الترابي كافيتيريا ”مرمرة“ وهي مكان عام على قارعة الطريق للقائه والبلد كلها تحت تصرُّفه؟! فهم أن هذا الاختيار يحمل رسالة مبطنة… «نحن نعرف كل شيء»… كافتيريا ”مرمرة“ عند الناصية الغربية لشارع 15 بالعمارات هو المكان الذي يعرفه كارلوس جيداً، ويتردَّد عليه باستمرار بسبب تلك الأثيوبية الجميلة التي جذبته من أوَّل أيام حضوره للخرطوم. ”قهوة“ كافتيريا مرمرة ذات طعم خاص، أضف إليها الإيقاعات الإثيوبية التي استهوته، ثم وجه ”بلين“ وقوامها البديع الذي ينهض على خصر نحيل، وتلك ميزة لم يعرفها إلا في الأثيوبيين. أدرك كارلوس أن الأمن السوداني يراقبه بدقة، ولم يستغرب ذلك فهو أصلاً يعتقد أن المخابرات السودانية تعلم بوجوده بالخرطوم من المخابرات الأردنية.
أسئلة كثيرة ضجَّت بداخله وليس ثمة إجابة. فكَّر في الأحداث المتلاحقة التي شهدتها حياته في الشهر الماضي، فمنذ إعلان إسلامة… لطهوره… لبداية ترتيب زواجه من ليلى لوصول ”لبنى التاجي“ من الأردن، وأخيراً اتصال الترابي به اليوم. قد تشير تلك الأحداث إلى أن حياته في الخرطوم بعد لقاء الترابي ستتغيَّر إلى الأفضل.
مشهد (48)
غياب كارلوس لأسبوع عن ليلى أقلقها. ذهبت إليه بالمنزل، وشعرت باضطراب الحُرَّاس وهُم ينقلون لها خبر خروجه من المنزل الساعة الثامنة والنصف مساء مستديرين بسرعة إلى داخل المنزل… سلوكهم هذا حيَّرها لأنهم كانوا دائما لُطفاء معها. غادرت المنزل من الباب دون ترك أية وصية. المُهم أنه بخير، وأنه يخرج بشكل عادي، ولكن ظلت علامة الاستفهام قائمة: لماذا انقطع عنها لأسبوع وكان عجلاً للقائها؟!
مشهد (49)
حين وصل كارلوس لكافتيريا مرمرة، كان صلاح سعد يقف بعيداً يراقب الموقف. وصل كارلوس بعربته الكريسيدا مصطحباً أحد مرافقيه. ترجَّل كارلوس من العربة وانتحى مرافقه بالعربة جانباً بشكل يتيح له مراقبة مدخل الكافتيريا. بعد دقائق نظر صلاح لساعته، لم يتبقَّ إلا خمس دقائق… أخذ من الدرج كتاب ”نهاية الأرض“ وأغلق العربة ومضى باتجاه المدخل. كان كارلوس يلبس نظارته الشهيرة وقميصاً ذا أكمام قصيرة، ويجلس قبالة المدخل تماماً. حين رفع كارلوس عينه ليرى الشخص الذي يقف على التربيزة، كان الكتاب قد تمَّ قذفه بين يديه، ابتسم كارلوس وأخذ الكتاب جانباً ليقف محيياً ضيفه… مدَّ صلاح يده مسلماً…
– قال كارلوس بعربي مكسَّر: «السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته»…
– ابتسم صلاح وقال مقدِّما نفسه: «صِدِّيق»… وسحب كرسياً وجلس قبالة كارلوس.
مشهد (50)
دخل ”هانئ سعيد“ كافتيريا مرمرة ومعه آخر، وجلسا بعيداً عن موقع كارلوس وصلاح، الذي لمحهُمها… أصابته حالة من الإنزعاج والتوتر هل هذه مصادفة؟! صلاح يعرف هانئ جيداً، ولكنه لا يعرف ما إذا كان هانئ يعلم بوجود كارلوس في السودان أم لا.
قال هانئ لصاحبه: «يبدو أن الجماعة اصطادوا كارلوس»… وتابع مسترسلاً: «الغريبة أن جماعتنا لم يعيروا وجود كارلوس بالسودان أدنى اهتمام ومنذ أن أرسلت التقرير والشريط لم يتصل أحد لمعرفة ما يجري».
بدأ هانئ في إصلاح مقعده بحيث يُخفي وجهه قائلاً: «صلاح سعد من أذكى رجال المخابرات السودانية، وإذا رآنا هنا سيُدرك أننا نعلم بوجود كارلوس، ولا بدَّ من مغادرة المكان بسرعة». في ذات تلك اللحظة كان صلاح يفكر بالمغادرة، ولكن هانئ كان أسرع، إذ نهض واستدار نحو البوَّابة وخرج مسرعاً. التفت صلاح سريعاً ليجد المنضدة قد خلت، فتأكد أن المخابرات المصرية وصلتها معلومات من جهة ما، وها هي تراقب كارلوس.
مشهد (51)
– قال صلاح لكارلوس: «هذا المكان غير مناسب للقاءات القادمة»…
– كارلوس: «أعتقد ذلك، ولكن لماذا اخترتم أن يكون اللقاء هنا؟»…
– صلاح: «أنت لا تعرف أماكن كثيرة فنادي الخرطوم وفندق كناري كلها أماكن مكشوفة، ثم أنه المكان المفضل لديك وبه قهوة تصنعها ”بلين“ بيديها»…
– ابتسم كارلوس قائلاً: «يبدو أنكم كنتم تراقبونني منذ زمن بعيد»…
– تجاوز صلاح الموضوع قائلاً: «كُلفتُ بلقائك لأسمع منك»…
– كارلوس: «تعرفون أنني هنا منذ شهور ولم أطلب لنفسي حماية ، وأنتم لم تتقدَّموا نحوي، وتعرفون أن مخاطر كثيرة تتهدَّدني. إذا كنتم لا تريدون حمايتي فلماذا تركتموني أدخل بلادكم؟»…
– «أنت أصلاً هنا لماذا؟»…
– «أنا مناضل أممي والأنظمة العربية أصبحت أنظمة خائرة تركت قضيتها الأساسية وانصاعت لأوامر الأمريكان ورغباتهم. الخرطوم الآن هي عاصمة المناضلين الحقيقيين والمجاهدين، ولم تعُد هناك عاصمة عربية صامدة في وجه الإرهاب الأمريكي سوى الخرطوم. أنا هنا لأضع يدي بأيديكم لمواصلة مسيرة مقاومة الإمبريالية العالمية والكفاح ضدها بشتى الوسائل. إذا قرأت ”نهاية الأرض“ ستدرك أن وسائلنا المتنوعة للنضال قادرة على اختراق جدار الإمبريالية العالمية وإصابتها إصابات موجعة. كنت أرغب في مقابلة الترابي لأضع نفسي وكتائب المناضلين في العالم تحت خدمة السودان».
كان صلاح يُصغي لكارلوس باهتمام وشدَّته الطريقة التي يعبِّر بها عن نفسه وحماسه المتدفق للنضال، وكأنه ذات الشاب الذي انخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية في السبعنيات كما أوضح ديفيد يلوب في كتابه عن كارلوس ”نهاية الأرض“.
أخذ كارلوس الكتاب وبدأ يتصفَّحه قائلاً:
– «هذا البريطاني روى عني حكايات ليست دقيقة ولكنه عَرَّفني بشكل أفضل للعالم. هل قرأت الكتاب؟»…
– قال صلاح: «قرأتُ كل ما كُتب عنك… ولكن ذلك لا يكفي، ينبغي أن نتعرَّف عليك… لا بد أنك تعرف أنه من الصعب الوثوق بشخص لم تتوفر لنا المعرفة الكافية عنه، وهذا طبيعي. نحن الآن لا نعرف شيئاً عنك، بل لا نعرف ما إذا كنت كارلوس أم شخصا آخر… دعني أكون صريحاً معك… صحيح أن موقفنا ضد الأمريكان، وهم يجاهرون بعدائنا ولكن لنا طرقنا في المقاومة التي قد تختلف مع طرائق نضالكم… المهم أن نعرف ما هو المطلوب بالتحديد… قبل ذلك، أرجو إبلاغك أن مراقبتنا ستستمر بشكل أقرب وحتى نخلق قناة اتصال سيكون بطرفك غداً حارساً من جماعتنا لتأمينك ولتأمين وسيلة اتصال معك… سأكون أنا متابعاً معك كل الشئون التي تخصك هذا رقم تلفون (…) اتصل به إذا كانت هناك حاجة ملحَّة لذلك… سنكون على اتصال دائم بك»…
– كارلوس: «ومتى سألتقي الترابي؟»…
– «سيعتمد ذلك على تطوُّرات الأمور والحوارات بيننا… الترابي الآن مشغول»…
– «علمتُ أن هنالك مؤتمراً عالمياً سيُعقد في الخرطوم»…
– «من أين عرفت؟»…
No comments: